زيد بن عمرو بن نفيل، أشهر الموحدين قبل الإسلام، أصحاب العقول الناضجة، الذين لم يستسيغوا تلك الحجارة الموضوعة فوق الكعبة، ولا ما ينسج حولها من أساطير وخرافات، وأحد الذين عبروا الروابي والهضاب والصحاري، سير حثيث بحثًا عن الحق، فلم تستمله اليهودية ولا النصرانية، فعاد إلى مكة يعبد الله على دين إبراهيم عليه السلام حتى مات.
زيد بن عمرو بن نفيل
زيد بن عمرو بن نفيل .. الباحث عن الدين
خَرَجَ إِلَى الشام يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ، فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ.
فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي.
فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ.
قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ.
فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ.
قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا.
قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ.
قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ.
فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ.
قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ.
قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا.
قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ.
قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ ،لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ.
فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ
وهذا الحديث يبيّن مقدار الحيرة التي سادت الدنيا، وغطّت بضبابها الكثيف على الأديان الظاهرة؛ اليهود يشعرون بأنّهم مطاردون في الأرض، منبوذون من أقطارها، فعلى الداخل في دينهم أن يحمل وزرا من المقت المكتوب عليهم.
والنصارى وقع بينهم شقاق رهيب في طبيعة المسيح ووضعه، ووضع أمّه، من الإله الكبير، وقد أثار هذا الخلاف بينهم الحروب المهلكة، وقسمهم فرقا يلعن بعضها بعضا.
ومن حقّ زيد أن يدع هؤلاء وأولئك، ويرجع إلى دين إبراهيم عليه السّلام يبحث عن أصوله وفروعه.
ويعود زيد إلى مكة غريبًا كيوم غادرهم، يرمق مكة ويرمق جموعها، أحقًا كانت هذه الأرض أرض التوحيد، ما بالهم يشركون، ينظر نظرة من ملأ قلبه الأسى واللهف، رأته أسماء بنت أبي بكر على هذه الحال: (مسندًا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بيده، ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللَّهم لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم)
ثم يؤدي حركة غريبة كغربته تتوهج شوقًا إلى الله، وشوقًا يعبر به عما في قلبه، تقول أسماء: (ثم يسجد على راحته، وكان يصلي إلى الكعبة ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم)
لقد كان هذا الغريب إنسانًا عظيمًا في زمنه، لا يتفوق عليه في سلامة الفطرة وصفاء الفكر إلا محمد صلى الله عليه وسلم. لقد كان يرى الرجل يحمل ابنته الصغيرة على ذراعيه مسرعًا بها نحو حفرة تلتهب بالرمضاء ليدسها فيها، فينهض مسرعًا ويعترض طريقه، ويتوسل إليه ألا يفعل، فإذا أصر "أن يقتل ابنته قال له: لا تقتلها ادفعها إليَّ أكفلها، فإذا ترعرعت فخذها، وإن شئت فادفعها". ثم يأخذ تلك البريئة الضعيفة، يحملها إلى بيته يرعاها ويحنو عليها، لأنه يعرف أن الله أرحم من عباده، وأنه لم يخلقها لتدفن بعد مولدها.
إنّ زيدا واحد من المفكّرين القلائل الذين سخطوا ما عليه الجاهلية من نكر، وإنه ليشكر على تحرّيه الحقّ، ولا يغمط هو ولا غيره أقدارهم بين قومهم.
ولم تكن عودة زيد بن عمرو لمكة ليأسه مما ملأ الأرض من رموز الشرك، بل عاد لينتظر، فلقد أرشده بعض الرهبان إلى قرب مخرج نبي مرسل، في أرض الحجاز، زيد نفسه يقول: "شَامَمْتُ النَّصْرَانِيَّةَ وَالْيَهُودِيَّةَ فَكَرِهْتُهُمَا، فَكُنْتُ بِالشَّامِ وَمَا وَالَاهُ حَتَّى أَتَيْتُ رَاهِبًا فِي صَوْمَعَةٍ، فَوَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ اغْتِرَابِي عَنْ قَوْمِي وَكَرَاهَتِي عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، فَقَالَ لِي: أَرَاكَ تُرِيدُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ يَا أَخَا أَهْلِ مَكَّةَ، إِنَّكَ لَتَطْلُبُ دِينًا مَا يُؤْخَذُ الْيَوْمَ بِهِ، وَهُوَ دِينُ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ حَنِيفًا لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا كَانَ يُصَلِّي وَيَسْجُدُ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي بِبِلَادِكَ فَالْحَقْ بِبَلَدِكَ، فَإِنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ مِنْ قَوْمِكَ فِي بَلَدِكَ يَأْتِي بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ" .
زيد بن عمرو بن نفيل .. الموحد
وهو صاحب البيت المشهور، الذي قاله يعيب على قومه عبادة الأصنام:
أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبٍّ *** أَدِينُ إذَا تُقُسِّمَتْ الْأُمُورُ
وجاهر بعداء الأوثان، فتألب عليه جمع من قريش، فأخرجوه من مكة، فانصرف إلى حراء، فسلّط عليه عمه الخطاب شبانا لا يدعونه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سرا.
وفي الحديث أَنَّ زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، خَرَجَا يَلْتَمِسَانِ الدِّينَ، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى رَاهِبٍ بِالْمَوْصِلِ، فَقَالَ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا صَاحِبَ الْبَعِيرِ؟ قَالَ: مِنْ بَيْتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: وَمَا تَلْتَمِسُ؟ قَالَ: أَلْتَمِسُ الدِّينَ، قَالَ: ارْجِعْ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَظْهَرَ الَّذِي تَطْلُبُ فِي أَرْضِكَ.
فَأَمَّا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَتَنَصَّرَ، وَأَمَّا زَيْدٌ فَعُرِضَ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فَلَمْ تُوَافِقْهُ فَرَجَعَ، وهو يقول:
لَبَّيْـــكَ حَقًّـــا حَقًّـــا *** تَـعَـبُّـــــــدًا وَرِقًّــــــــا
الْبِرُّ أَبْغِي لَا الْخَــالُ *** وَهَلْ مُهَجِّـرٌ كَمَنْ قَــالَ
آمَنْـــــتُ بِمَـــــــا آمَـــــنَ بِـــــهِ إِبْرَاهِيــــــــمُ
الْبِرُّ أَبْغِي لَا الْخَــالُ *** وَهَلْ مُهَجِّـرٌ كَمَنْ قَــالَ
آمَنْـــــتُ بِمَـــــــا آمَـــــنَ بِـــــهِ إِبْرَاهِيــــــــمُ
و يقول:
أَنْفِي لَكَ عَانٍ رَاغِمُ *** مَهْمَا تُجَشِّمْنِي فَإِنِّي جَاشِمُ
ثم يخرُّ، فيسجد .
زيد بن عمرو بن نفيل ورسول الله
وفاة زيد بن عمرو بن نفيل
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيَقُولُ: إِلَهِي إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِي دِينُ إِبْرَاهِيمَ وَيَسْجُدُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُحْشَرُ ذَاكَ أُمَّةً وَحْدَهُ بَيْنِي وَبَين عِيسَى بن مَرْيَم".
وكان سعيد بن المسيب يذكر زيد بن عمرو بن نفيل، فقال: توفى وقريش تَبْنِي الْكَعْبَةَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَلَقَدْ نَزَلَ بِهِ (الموت) وَإِنَّهُ لَيَقُولُ: أَنَا عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ .
رحمة الله على الصحابة والسالفين
ردحذف